أّعْتَذِرُ بِدَايَةً عَنْ
تَأَخُّرِيْ قُرَابَةَ الثَّلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَالنِّصْفَ عَنْ نّشْرِ أَيِّ
مَوْضُوْعٍ جَدِيْدٍ مُنْذُ أَنْ بَدَأْتُ هَذِهِ المُدَوَّنَةِ، فَعَلَىْ مَا
يَبْدُوْ أَنِّيْ مَا زِلْتُ أُعَانِيْ بَعْضَ الصُّعُوْبَاتِ وَأَنَّ مُدَوَّنَتِيْ
عَلَىْ الرُّغْمِ مِنْ كَوْنِهَا فِيْ بِدَايَتِهَا إِلَّا أَنَّهَا قَدْ لَا
تَسْتَمِرُّ إِلَّا إِذَا أَجْبَرْتُ نَفْسِيْ عَلَىْ مُوَاصَلَةِ الكِتَابَةِ.
أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَ بَعْضَ
الضَّوْءِ عَلَىْ مَا لَاحَظْتُهُ عَلَىْ مَوْقِعِ التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ
الشَّهِيْرِ "فيسبوك"...
جَمِيعُ مَوَاقِعِ وَشَبَكَاتِ
التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ عَلَى الإِنترنت تَمُرُّ بِمَرَاحِلَ عِدَّةَ
أَشْبَهُ مَا تَكُونُ بِدَورَةِ حَيَاةِ كَائِنٍ حَيٍّ، فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ
مُجَرَّدَ صَفَحَاتٍ إِلكترونية وَكَمًّا مِنَ المَعْلُومَاتِ وَالشَّفَرَاتِ
البَرْمَجِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ مُحَرِّكَهَا الأَسَاسِيُّ هُوَ التَّفَاعُلُ
البَشَرِيُّ الدَّائِرُ دَاخِلَهَا.
تَبْدَأُ تِلْكَ المَوَاقِعُ
كَطِفْلٍ رَضِيْعٍ ضَعِيْفٍ لَا حَولَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ، يَعْتَمِدُ كُلِّيًا
لِنَجَاتِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَىْ مَجْهُودِ وَالِدَيْهِ وَالقِلَّةِ
القَلِيلَةِ مِنَ المُحِبِّيْنَ حَوْلَهُ. لَيْسَ لَدَيْهِ الكَثِيْرُ لِيُقَدِّمَهُ
لِلْعَالَمِ، لَا يَعْلَمُ عَنْهُ إِلَّا قَلِيْلُونَ مِنْ حَوْلِهِ. يَكْبُرُ
ذَاكَ الطِّفْلُ وَيَشْتَدُّ عُوْدُهُ وَتَتَوَسَّعُ مَدَارِكُهُ وَتَكْثُرُ
مَعَارِفُهُ، وَيَنْخَرِطُ فِيْ عَلَاقَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ مُتَشَعِّبَةٍ
تَمْلَؤُهَا التَّجَارِبُ المُثْرِيَةُ لِثَقَافَتِهِ. ثُمَّ يَغْدُوْ شَابًّا
يَافِعًا قَوِيًّا مُقْتَدِرًا وَلَهُ مِنَ المَعَارِفِ وَالعَلَاقَاتِ
الثَّابِتَةِ مَا يَكْفِيْ لِسَدِّ فُضُوْلِهِ وَإِشْغَالِ يَوْمِهِ. لَكِنَّهُ
وَبَعْدَ عِزَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَشُهْرَتِهِ، يَبْدَأُ بِالخُمُوْلِ وَالضَّعْفِ
تَدْرِيْجِيًّا حَتَّىْ يُصْبِحَ كَهْلًا ضَعِيْفًا، وَعَلَىْ الرُّغْمِ مِنْ
مَعَارِفِهِ وَأَصْدِقَائِهِ الكُثُرِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَفْتَرِقُوْنَ عَنْهُ
وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ حَتَّىْ يَعُوْدَ وَحِيْدًا كَمَا بَدَأَ، يَعْتَمِدُ
كُلِّيًا عَلَىْ أَبْنَائِهِ وَالقِلَّةِ القَلِيْلَةِ مِنَ المُحِبِّيْنَ
حَوْلَهُ. ثُمَّ يَصِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمَحْتُوْمِ: يَأْتِيْهِ يَوْمُهُ!
وَلِكُلٍّ مِنَّا يَوْمٌ...
هِيَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ
لِبَنِيْ البَشَرِ وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ
الاِجْتِمَاعِيِّ. وَحِيْنَ أَخُصُّ بِالكَلَامِ مَوْقِعَ فيسبوك فَإِنِّيْ
أَعْتَقِدُ بِأَنَّهُ الآنَ يَمْضِيْ فِيْ زَمَنِ شَيْخُوْخَتِهِ. لِمْ يَصِلْ
لِمَرْحَلَتِهِ الأَخِيْرَةِ قَبْلَ المَوْتِ بَعْدُ، لَكِنَّهُ وَمِنْ دُوْنِ
شَكٍّ مَاضٍ إِلَىْ هُنَاكَ. فَبَعْدَ أَنْ بَدَأَ صَغِيْرًا وَمَغْمُوْرًا، ثُمَّ
غَدَىْ فيسبوك المَكَانَ الأَضْخَمَ فِيْ عَالَمِنَا كُلِّهِ لِلتَّوَاصُلِ،
وَأَصْبَحَ الصَّغِيْرُ وَالكَبِيْرُ يَمْتَلِكُ صَفْحَتَهُ الخَاصَّةَ عَلَىْ
فيسبوك؛ نُلَاحِظُ الآنَ أَنَّ أَسْمَاعَنَا تَشَبَّعَتْ مِنْ ذِكْرِ فيسبوك،
وَسَئِمْنَا كَلَامَهُ وَمَوَاضِيْعَهُ، وَأَصْبَحْنَا نَبْحَثُ وَنَنْظُرُ إِلَىْ
بَدَائِلِهِ، وَأَصْبَحَتْ شَعْبِيَّتُهُ تَتَنَاقَصُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَمْ
يَعُدْ مِنَ الضَّرُوْرِيِّ عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ وَنَرَاهُ عِدَّةَ
مَرَّاتٍ فِيْ اليَوْمِ كَمَا كُنَّا نَفْعَلُ، بَلْ لَنْ يَضُرَّنَا لَوْ لَمْ
نَرَهُ لِأَيَّامَ أَوْ حَتَّىْ أَسَابِيْعَ عِدَّةَ مُتَوَاصِلَةً!
أَصْدِقَاءُ فيسبوك القُدَامَىْ
وَحُلَفَاؤُهُ مُسْتَاؤُوْنَ لِمَا آلَ عَلِيْهِ حَالُ مَوْقِعُهُمْ مِنَ
ازْدِحَامِهِ بِسَوَادٍ عَظِيْمٍ مِنْ أُنَاسٍ لَا يَكْتَرِثُوْنَ لِإِثْرَاءِ
هَذَا الصَّرْحِ الاِجْتِمَاعِيِّ بِمَا يَعُوْدُ عَلَيْهِ بِالفَائِدَةِ. وَالمُشْتَرِكُوْنَ
الجُدُدَ يَرَوْنَهُ مَكَانًا مُكْتَظًّا وَلَا مَكَانَ لَهُمْ لِلْمُشَارَكَةِ
فِيْهِ. وَالأَغْلَبِيَّةُ العُظْمَىْ تَتَكَوَّنُ مِنَ القُرَّاءِ الصَامِتِيْنَ.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُتَابِعُوْنَ مَا حَوْلَهُمُ وَيَقْرَؤُوْنَ أَغْلَبَ مَا
يُكْتَبُ، لَكِّنَهُمُ لَا يَنْبِتُوْنَ بِشَفَةٍ وَلَا تَسْمَعُ أَوْ تَقْرَأُ
لَهُمُ تَعْلِيْقًا.
الصَّامِتُوْنَ، أُولَئِكَ هُمْ
شَرُّ البَلِيَّةِ! مَتَىْ مَا دَخَلُوْا مَكَانًا وَتَكَاثَرُوْا فِيْهِ أَصْبَحَ
ذَاكَ المَكَانُ مُوحِشًا. فَفِيْ بِدَايَةِ الأَمْرِ، كُنْتَ لَا تَلْحَظُ
الكَثِيْرَ مِنَ التَّفَاعُلِ لِقِلَّةِ المُشْتَرِكِيْنَ، لَكِنَّهُمْ عَلَىْ
الرُّغْمِ مِنْ قِلَّتِهِمْ مُهْتَمُّوْنَ بِاسْتِمْرَارِ وَتَطْوِيْرِ
المَوْقِعِ. وَفِيْ ذُرْوَةِ نَشَاطِ المَوْقِعِ تَرَىْ جُمُوْعًا غَفِيْرَةً
وَمُشَارَكَاتٍ عِدَّةَ مِنْ أُنَاسٍ لَا زَالُوْا مُهْتَمِّيْنَ، لَكِنْ
عِنْدَمَا يَأتِيْ المُتَأَخِّرُوْنَ، الذِّيْنَ سَمِعُوْا الكَثِيْرَ وَلِزَمَنٍ
طَوِيْلٍ عَنْ هَذَا المَوْقِعِ وَمِيْزَاتِهِ، وَدَخَلُوْهُ عَلَىْ مَضَضٍ
حَتَّىْ لَا يُقَالُ عَنْهُمُ أَنَّهُمْ خَلْفَ الرَّكْبِ؛ يَدْخُلُوْنَ دُوْنَ
أَدْنَىْ اِهْتِمَامٍ بِالمُشَارَكَةِ، فَهُمْ هُنَا لِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَقَطْ:
"نشوف وش صاير."
يُكْثِرُوْنَ السَّوَادَ فِيْ
قَائِمَةِ "الأَصْدِقَاءِ"، لَكِنَّكَ بِالكَادِ تَرَىْ لَهُمْ
مُشَارَكَةً أَوْ حَتَّىْ مُجَرَّدَ "إِعْجَابٍ Like". تُحِسُّ بِأَنَّكَ تَتَكَلَّمُ فِيْ قَاعَةِ بِهَا مِئَاتٌ
وَرُبَّمَا آلَافٌ مِنَ البَشَرِ، لَكِنَّكَ لَا تَجِدُ مِنْهُمُ غَيْرَ قِلَّةٍ
قَلِيْلَةٍ تُعَدُّ عَلَىْ أَصَابِعِ اليَدِ الوَاحِدَةِ مِمَّنْ يَسْتَمِعُوْنَ
إِلَيْكَ، وَفِيْ بَعْضِ الأَحْيَانِ لَا تَجِدُ حَتَّىْ أُوْلَئِكَ القِلَّةَ
القَلِيْلَةَ حَوْلَكَ لِاِنْشِغَالِهِمْ بِأُمُوْرٍ أُخْرَىْ.
أَضِفْ عَلَىْ ذَلِكَ اِمْتِلَاءَ
المَوْقِعِ بِالصَّفَحَاتِ وَالإِعْلَانَاتِ التَّجَارِيَّةِ، والصَّفَحَاتِ
الإِخْبَارِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَاِكْتِظَاظِ المَوْقِعِ بِمَا يُنْشَرُ
عَلَىْ تِلْكَ الصَّفَحَاتِ عَلَىْ حِسَابِ المُشَارَكَاتِ الشَّخْصِيَّةِ.
فَحَتَّىْ لَوْ قَامَ أَحَدُ أَصْدِقَائِكَ بِنَشْرِ خَبَرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ
مُشَارَكَةٍ مَا، تَجِدُهَا خِلَالَ ثَوَانٍ قَدْ غُمِرَتْ مَا بَيْنَ مِئَاتٍ
مِنْ إِعْلَانَاتٍ وَنَشَرَاتٍ لَا تُهِمُّكَ وَلَا تَنْوِىْ قِرَاءَتَهَا،
فَتَضِيْعُ بِذَلِكَ وَقَدْ لَا تَعْلَمُ بِوُجُوْدِهَا أَبَدًا!
لِتِلْكَ الأَسْبَابِ التَّيْ
ذَكَرْتُهَا وَغَيْرَهَا، أَرَىْ أَنَّ فيسبوك تَحَوَّلَ إِلَىْ مَكَانٍ مُوْحِشٍ
لَا أَسْتَلْطِفُ بَقَائِيْ فِيْهِ. تُرَاوِدُنِيْ نَفْسِيْ أَنْ أَتْرُكَهُ
وَأَمْضِيْ فِيْ سَبِيْلِيْ، لَكِنَنِيْ أَتَرَدَّدُ حِيْنَهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ
أَفْقِدَ الاِتِّصَالَ بِالكَثِيْرِ مِنَ النَّاسِ، فَالكُلُّ مَوْجُوْدٌ عَلَىْ
فيسبوك! قَدْ يَكُوْنُ خَوْفِيْ مُبَالَغًا فِيْهِ، وَقَدْ أَتَمَكَّنُ يَوْمًا
مَا مِنَ التَّحَرُّرِ مِنْ عُقْدَةِ فيسبوك، فَسُبُلُ التَّوَاصُلِ كَثِيْرَةٌ،
وَالتَّوَاصُلُ إِنْ نَحْنُ تَعَمَّقْنَا قَلِيْلًا فِيْ مَعْنَاهُ وَجَدْنَاهُ
أَبْعَدَ مَا يَكُوْنُ عَنْ طَبِيْعَةِ اِسْتِخْدَامِنَا الحَالِيَّةِ لِمَوَاقِعِ
"التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ".
عَلَىْ كُلِّ حَالٍ، لَمْ أَصِلْ
بَعْدُ لِمَرْحَلَةِ مُفَارَقَتِهِ، فَلَعَلَّ الحَالَ يَتَغَيَّرُ عَكْسَ مَا
تَوَقَّعْتُ، وَلَعَلَّ فيسبوك يَنْتَعِشُ مَرَّةً أُخْرَىْ...
No comments:
Post a Comment